- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
كل إنسان ممتحن فيما أعطي وفيما زوي عنه :
أيها الأخوة الكرام، الدنيا والآخرة، الدنيا لها خصائص، والآخرة لها خصائص، ومن مسلمات العقيدة أن يعلم المؤمن خصائص الدنيا وخصائص الآخرة، الآخرة دار جزاء، الآخرة دار نعيم مقيم لمن نجح في الابتلاء، والآخرة دار شقاء أليم لمن لم ينجح في الابتلاء، الدنيا دار عمل والآخرة دار تكريم، الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، فهناك خصائص كبيرة وصارخة للدنيا والآخرة، نحن في الدنيا، الدنيا دار ابتلاء، الدنيا دار امتحان، أنت ممتحن أيها المؤمن في كل شيء أعطاك الله إياه، أعطاك المال والمال مادة امتحانك، منعك من المال ومنع المال مادة امتحانك، أعطاك صحة والصحة مادة امتحانك، منعك من الصحة ولو جزئياً وهذا المنع مادة امتحانك، جعلك قوياً والقوة مادة امتحانك، وجعلك ضعيفاً والضعف مادة امتحانك، أنت ممتحن فيما أعطيت وفيما زوي عنك.
الدنيا دار ابتلاء و الآخرة دار جزاء :
من أدق الأدعية النبوية هذا الدعاء المتعلق بهذا الموضوع:
(( اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ ))
رزقتني صحة، اجعل هذه الصحة في طاعتك، رزقتني مالاً، اجعل هذا المال من أجل الآخرة، رزقتني مكانة اجتماعية، اجعل هذه المكانة دعماً للحق.
((....وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ ))
جعلتني فقيراً يا رب اجعل هذا الفراغ الناتج عن الفقر في رضوانك:
(( اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ))
لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له ))
يؤجر مرتين؛ يؤجر إذا أعطي ويؤجر إذا منع، يؤجر إذا اغتنى ويؤجر إذا افتقر:
(( عَجَبا لأمر المؤمن! إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْهُ سَرَّاءُ شكر، فكان خيراً له، وإن أصابتْهُ ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له ))
المؤمن ممتحن في كل شيء أعطاه الله إياه :
أيها الأخوة، هذا تمهيد، ما دامت الدنيا دار ابتلاء ومن الابتلاء ألا تكون قوياً، ومن الابتلاء ألا تكون صحيح الجسم، ومن الابتلاء ألا تكون آمناً، وهذه الآية موجهة للمؤمنين قال تعالى:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ*أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾
الصبر هو الموقف الكامل الذي ينبغي أن يقفه المؤمن حينما يبتليه الله :
لذلك أيها الأخوة، لأن حياة المؤمن حياة ابتلاء، لأن من أكبر مظاهر الابتلاء الحرمان
ما الموقف الكامل الذي ينبغي أن يقفه المؤمن حينما يبتليه الله؟ أنت حينما تبتلى - لا سمح الله ولا قدر- والأدب النبوي أن تسأل الله العافية، الدعاء المذهل في الطائف حينما مشى النبي عليه الصلاة والسلام على قدميه من مكة إلى الطائف مسافة تقدر بثمانين كيلو متراً، لعلهم يؤمنون به، فإذا هم يكذبونه ويسخرون منه، وأغروا صبيانهم فضربوه، وسال الدم من قدمه الشريف، دعا دعاء يحتاجه كل مسلم، قال: يا رب أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا رب المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى عدو ملّكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، أما الأدب المذهل، لكن عافيتك أوسع لي، لذلك سلوا الله العافية، سلوا الله الكفاية، سلوا الله الصحة، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي، لأننا في دار ابتلاء ولأن من خصائص الابتلاء النقص في المال، في البنين أحياناً، النقص في الصحة، لذلك موضوع هذه الخطبة الصبر.
نعمة الهدى لا تعدلها نعمة على الإطلاق :
الصبر ورد في القرآن الكريم في ثلاث وتسعين آية، لكن اخترت لكم من هذه الآيات عشرين، كل آية تغطي جانباً
هناك موضوع دقيق جداً يؤخذ من مجموع آيات الصبر، أولاً: يقول الله عز وجل:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ﴾
أنت حينما تتصل تسعد، و عندئذ بعد اتصالك بالله أنت أكبر من أكبر مصيبة، والله أيها الأخوة، أقول هذه الكلمة دائماً: المؤمن أكبر من أكبر مصيبة، والدليل: إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي.
سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصابته مصيبة، يقول: الحمد لله ثلاث؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني، مصيبة الدين هي المصيبة، مصيبة الدين أن تأكل المال الحرام، مصيبة الدين أن تعتدي على حرمات الناس، مصيبة الدين أن ينافق الإنسان، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، أي ما دام دينك سليماً فأنت في خير، ما دام الدين سليماً، تؤدي العبادات، تتصل برب الأرض والسماوات، تخاف الله، ترجو ما عنده، محسن لمن حولك، أنت في خير، أنت في نعمة لا تعدلها نعمة لأن نعمة الهدى لا تعدلها نعمة، بل إن تمام النعمة الهدى.
كل شيء له حساب إلا الصبر :
لذلك:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ﴾
أي إن لم تحكم اتصالك بالله وتسعد بهذا الاتصال كن صابراً، والصبر يعني أحياناً يكتب شيك برقم مليون، مئة مليون، لكن هناك سنداً لا تقدر قيمته برقم، موقف والرقم متروك لك أنت أملأه، اختر أكبر رقم، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
كل شيء له حساب إلا الصبر:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
من اتصل بالله عز وجل كان في قمة السعادة :
والله أيها الأخوة، حينما أقرأ قوله تعالى:
﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾
مؤمن مستقيم امتحنه الله بمرض فهو صابر، أنا لي أخ كريم من أخواننا الكرام، أصيب بمرض خبيث، تقسم زوجته بالله أن المرض دام سنتين، تقسم بالله بأيمان مغلظة أنها ما سمعت منه في السنتين إلا الحمد لله وتوفاه الله على هذه الحالة، شيء قليل أن تكون صابراً، معنى ذلك أنت تعرف الله، أب ضرب ابنه، أب كله رحمة لمصلحة ابنه، لا يفسر تأديب الأب لابنه إلا لصالحه، لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾
أي أن تكون متصلاً بالله أنت في قمة السعادة، ويا رب ماذا وجد من فقدك؟ وماذا فقد من وجدك؟ إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟
العاقبة للمتقين :
الآية الثانية:
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
قد يدور الزمان يقوى الكافر، يستكبر، يتحدى، يتبجح، ولكن العاقبة للمتقين:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾
لذلك من ضحك أولاً ضحك قليلاً وبكى كثيراً، ولكن الذي يضحك آخراً يبكي قليلاً ويضحك كثيراً إلى أبد الآبدين:
﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
الأيام تدور، أناس يرتفعون، أناس ينخفضون، أناس يصبحون أغنياء، أناس يفتقرون، وفي النهاية العاقبة للمتقين، هؤلاء الشباب الضعاف الفقراء الذين كانوا حول النبي عليه الصلاة والسلام من أسر فقيرة اتبعوه دائماً جائعون مجاهدون في النهاية، سيدنا بلال، سيدنا سعد، كلهم سادتنا، هم في لوحة الشرف في التاريخ، والذين ناهضوا هذه الدعوة زعماء قريش، أغنياء قريش، كبراء قريش، هم في مزبلة التاريخ:
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
صديق أيها الأخ ولا أبالغ، أنت الآن شاب تخاف الله، ترجو ما عنده، تقيم الصلوات، أنت محسن، مستقيم، تنصح من حولك، بار بوالديك، أقسم لكم بالله عندي يقين يفوق حدّ الخيال هذا الشاب قد لا يملك الآن شيئاً، لا بيت، ولا زوجة ولا عمل، لكنه محب لله، أقسم لكم بالله أن هذا الشاب له مستقبل كبير، كيف؟ لا أعلم، لكن أنا أعلم أنه ما من شيء أكرم على الله من شاب تائب، واللهُ عزّ و جل يباهي الملائكة بالشاب التائب، يقول: انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي.
بطولة الإنسان أن يكون ممن وعده الله عز وجل بالجنة :
أيها الأخوة، آية قرآنية:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴾
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
كل بطولتك أن تكون ممن يعلم، كل بطولتك أن تكون من أصحاب الجنة، ممن وعدهم الله عز وجل بالجنة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُون*نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون* نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
الإحسان من خصائص المؤمن :
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
في النهاية المتقون في أعلى عليين، المتقون في لوحات الشرف، المتقون في جنات عرضها السماوات والأرض، الآن من خصائص المؤمن أنه محسن، والإحسان عطاء؛ يعطي من وقته، من ماله، من خبرته، من صحته:
﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
أقسم لكم بالله زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمحسنين، لك عمل صالح، هل تعيش للآخرين؟ هل عندك قلب رقيق؟ هل تبذل من مالك؟ من وقتك؟ من جاهك؟ من مكانتك؟ من علمك؟ من خبرتك لهؤلاء الضعاف المساكين عباد الله عز وجل ؟﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾
المؤمن وعده الله بحياة طيبة :
أيها الأخوة:
﴿ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾
قد تجد بالمثل القريب من حياتنا طالب مهمل لا يدرس، لا يداوم، لا يقرأ، لا يؤدي امتحاناً، يمضي وقته كما يتمنى، وكما يشتهي، وكما يريد، وطالب آخر ملتزم بالدوام والدراسة، انظر لهذين الطالبين بعد عشرين عاماً، إنسان له مكانة في المجتمع، متألق، في بحبوحة مالية، له مكانة اجتماعية، والثاني يعاني ما يعاني:
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾
العاقبة، المستقبل للمتقي، الأيام تدور، هذا الذي لزم بيوت الله عز وجل، حضر دروس العلم، طبق هذا المنهج في بيته، في عمله، خاف من الله، غض بصره، أنفق من ماله، طلب العلم، هذا يجب أن تراه بعد عشرين عاماً في أعلى مكانة، وفي بحبوحة، وله عمل صالح كبير، وهو من أسعد الناس.
زوال الكون أهون على الله من أن يعامل المحسن كما يعامل المسيء :
هناك قوانين أخواننا الكرام، هذه القوانين يشار إليها بالقرآن الكريم أحياناً:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
مستحيل:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾
مستحيل وألف ألف مستحيل، بل إن زوال الكون أهون على الله من أن يعامل المحسن كما يعامل المسيء، هناك فرق كبير وهذه وعود الله فوق المكان والزمان، فوق كل الظروف، فوق كل الأنظمة، المؤمن وعده الله بحياة طيبة.
زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق الحياة الطيبة للمؤمن في أي عصر ووضع :
مرة ثانية: زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق هذه الحياة الطيبة للمؤمن في أي عصر، بأي وضع، بأي ضائقة:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
أنت أيها المؤمن لك عند الله أيام، مرة دعوته فاستجاب لك، مرة نجاك من ورطة كبيرة، مرة أعانك في الامتحان، مرة جمعك مع أهل الخير، مع أهل الحق، مرة جمعك مع زوجة صالحة، تسرك إن نظرت إليها، و تحفظك إن غبت عنها، و تطيعك إن أمرتها:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
كيف الله عز وجل جعلك من أبوين شريفين، كيف أعانك على طاعته، كيف جمعك مع أهل الحق، كيف دلك عليه:
﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ ﴾
التوكل على الله حالة راقية جداً :
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
يملك التوكل على الله، التوكل أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، التوكل حالة راقية جداً، الإله العظيم بيده كل شيء، وضعت حاجتك عنده، واستسلمت له، وارتحت:
﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾
الصبر فضل من الله عز وجل :
لكن الله يعلمنا أن الصبر هو فضل من الله عز وجل:
﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾
لذلك المؤمن الصادق في خلوته مع ربه، في مناجاته، يقول له: يا رب اعني على الصبر، سيدنا عمر ما أصابته مصيبة قط، إلا قال: الحمد لله ثلاث؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ ألهمت الصبر عليها.أعانك على أن تصبر، ولم تكن أكبر منها، ولم تكن في دينك.
على الإنسان أن يكون مع المؤمنين ولو كانوا ضعافاً وفقراء :
الآن عندنا نوع من الصبر دقيق، قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾
هناك درس دين بالجامع، لكن في الجامع لا يوجد كراسي، ولا ضيافة، يمكن أن تذهب إلى صديق، وتكون السهرة مختلطة، وتتمتع بمفاتن الحسناوات، وتكون مرحاً بالجلسة، وتقضي للساعة الثانية عشرة، وتقول: هذه السهرة لا أنساها، لكن كلها بالمعاصي، ويمكن أن تأتي إلى بيت من بيوت الله، وتجلس على الأرض، ولا يوجد أي ضيافة، قال تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
منهج كن مع المؤمنين ولو كانوا ضعافاً وفقراء، فالسعادة معهم، والتوفيق معهم، ولا تكن مع أهل الدنيا المنحرفين الذين لم يعبؤوا بطاعة الله:
﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾
العبادة تحتاج إلى جهد :
العبادة تحتاج إلى جهد، أنت تصلي العشاء، الناس يسهرون و لا يستطيعون أن يصلوا، أنت تصلي العشاء أربع ركعات ووتر وسنة:
﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾
في رمضان هناك صيام بأشهر الصيف:
﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾
في الطريق حسناوات غاديات ورائحات، وكل مفاتنهم ظاهرة:
﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾
غض البصر، الدين فيه جهد و فيه تكليف:
﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾
الجمال والكمال والنوال أساس كل شيء :
ثم قال تعالى:
﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ﴾
قال تعالى:
﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾
أنت حينما تتصل بالذات الكاملة، حينما تتصل بأصل الجمال، بأصل الكمال، بأصل النوال، أنت ماذا تحب؟ أنت تحب الجمال، والكمال، والنوال، هذه أساسيات كل شيء، الجميل يحب، والكامل يحب، والعطاء يحب، إنسان أعطاك بيتاً تتزوج فيه، جزاه الله خيراًً، تحب النوال، تحب الجمال، تحب الكمال، والجمال والكمال والنوال عند الله:
﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾
في الإسلام لا يوجد حرمان :
من هو الفائز؟ الصابر، ما فلسفة الصبر؟ أنت مخلوق أودع الله فيك الشهوات، شهوة الطعام والشراب، شهوة الجنس، شهوة العلو في الأرض، هذه كلها شهوات أساسية، هذه الشهوات الله سمح لك بحيز محدد، شهوة المرأة زوجتك فقط، الإسلام لا يوجد فيه خليلة أبداً، ولا صديقة، الزوجة فقط، بالمال الكسب المشروع، بالعلو في الأرض العمل الصالح، أنت بالعمل الصالح تعلو عند الله وعند الناس، وأنت من خلال التجارة المشروعة أو الخدمة المأجورة يأتيك المال الحلال تسعد به، وأنت من خلال الأعمال البطولية تعلو عند الناس، الحاجة إلى العلو، والحاجة إلى المال، والحاجة إلى الطعام، وإلى الطرف الآخر، هذه الحاجات موفورة بالدين لكن من طريق نظيف، من طريق شريف، من طريق تعلو به عند الله وعند الناس، فلذلك في الإسلام لا يوجد حرمان، لكن الشهوات التي أودعها الله فيك تأخذها من جانبها الراقي.
الموت عرس المؤمن :
أيها الأخوة:
﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾
﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
بصراحة معظم الناس الموت لا يدخل في حساباتهم إطلاقاً، يعيش لحظته، متى ينسى الحليب الذي رضعه من أمه؟ عندما يقترب أجله، أقول لكم وأنا أعني ما أقول: معظم الناس موضوع الموت ليس داخلاً في حساباتهم أبداً، لكن عندما يصاب الإنسان بأزمة قلبية والأزمة القلبية في الأعمّ الأغلب تقربه من الموت، ساعتئذ يدخل في متاهات، لذلك الله عز وجل قال:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾
فالبطولة أن تصل إلى هذه الساعات الحرجة قبل أن تصل إليك، أن تصل إليها بعقلك، وتتوافق معها، وتتكيف معها، قبل أن تصل إليك، أعرف رجلاً ذهب إلى بلد غربي للمعالجة، فكان الجواب أن الموت محقق خلال أيام، وتبلّغ بطريقة أو بأخرى، يقول لي قريبه: أول يوم جمع أهله وأصهاره وكنائنه وودعهم، ثاني يوم حلّ مشاكله المالية، ثالث يوم له شيخ في الشام زاره، وعمل له بعض الأوراد، وكما توقع الطبيب باليوم الثالث الساعة الواحدة توفاه الله، لكن يقول لي قريبه: استقبل الموت براحة عجيبة لأن عمله صالح، من عادته إذا جاء إنسان يريد مالاً - ولو كان هناك أناس لا يقرونه على هذا- يقول له: افتح الصندوق وخذ ما تشاء ولا تعلمني من محبته للخير، إنسان مضطر للمال طبعاً مؤمن، افتح وخذ ما تريد ولا تعلمني، هذا عندما جاءه الموت كان بأسعد لحظات حياته:
(( تحفة المؤمن الموت ))
كل حياتك تعد لهذه اللحظة، الموت عرس المؤمن، فالبطولة أن تجعل هذه المصيبة العامة هي ساعة من ساعات الحب مع الله.
الصبر نصف الإيمان :
أيها الأخوة الكرام، موضوع الصبر، مرة ثانية في القرآن ثلاث وتسعين آية عن الصبر، وكل آية لها معنى فرعياً مهماً جداً، عندما تصل إلى الصبر ابحث في الحاسوب عنه فيظهر عندك عدد من الكلمات، تابع الموضوع متابعة دقيقة، الصبر نصف الإيمان، الإيمان نصف صبر ونصف شكر، أنت بين شدة وبين رخاء، في الشدة تصبر، في الرخاء تشكر، إن أردت أن تلخص الإيمان كله شقان؛ صبر وشكر، في الشدة تصبر، وفي الرخاء تشكر، والمؤمن شكور وصبور.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم.
ينبغي على الإنسان أن يقف على صفات المؤمنين في القرآن وقفة متأنية :
أيها الأخوة الكرام، أحياناً في القرآن الكريم تأتي صفات المؤمنين تُقرأ هكذا، لكن ينبغي أن تقف عندها وقفة متأنية، كيف؟ اسأل نفسك سؤالاً محرجاً هل أنت كذلك؟ الله عز وجل قال:
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ﴾
استسلمت لله؟ هل أنت خاضع له؟ هل أنت معتقد أن هذا الدين حق؟ وأن هذه الأوامر من عند الله تسعد من طبقها؟
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾
هل أنت مؤمن بالدار الآخرة؟
(( ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
هل أنت مؤمن أنك أنت مخلوق لحياة أبدية؟
﴿ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ﴾
هل جمعت قلبك إلى الله؟ هل وحدت وجهتك مع الله؟
﴿ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾
القرآن الكريم ربيع القلوب :
أخواننا الكرام، القرآن الكريم ربيع القلوب
اقرأ القرآن واسأل نفسك دائماً هل أنت كذلك؟ هل هذه الصفات منطبقة عليك؟ إن لم تنطبق احرص أن تنطبق عليك.
أيها الأخوة، هذا القرآن الكريم ربيع قلوبنا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، هذا القرآن دستورنا، هذا القرآن منهجنا، هذا القرآن فيه إخبار لنا عن مستقبلنا، هذا القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلذلك المؤمن حريص على القرآن الكريم حرصاً لا حدود له، بل إن بعضهم قال: القرآن كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، فالقرآن من أخص خصائص المؤمن، ومن ألزم لوازم المؤمن.
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين، اللهم بفضلك ورحمتك أعل ِكلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.